يا فخر فإن الناس فيك ثلاثة مستعظم أو حاسد أو جاهل
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
وسوف نقرأ المتنبئ قراءة المتلمس للبيان، المشغوف بالحسن، المتلهف علي الإبداع ، وهو الذي يقول لنا:
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
وقد أبدع في هذا البيت، وإليك بسطه بالنثر، فهو يقول لك: أرجوك لا تثرب علي المشتاق المحب في تلهفه وتوجعه واحترافه، ولا تلمه علي زفراته والتهاب حشاياه ، واضطراب جوانحه، فإنه معذور بما يحمل من حب، وما يجد من صبابة، فما دام انك لم تذق ما ذاق من اللوعة والأسى، فلماذا ـ رعاك الله ـ تلومه وتؤنبه؛ لأن حالك غير حاله.
ونحن في قراءة شعر المتنبئ نجد من هذه اللوعة والاشتياق والتأثر ما نرجو معه أن يعذرنا لائمونا، ولا يثرب علينا أحد من الناس هذه النزعة الأدبية، والغرام البياني مع كل لفظ جميل ساحر.
المتنبئ
تجاوزنا السيرة الذاتية، وتخطينا التراجم التقليدية، ووصلنا إلي نتاج هذا الشاعر مباشرة؛ فالمتنبئ عندي ملك الشعراء؛ لأن للشعر وزيراً وأميراً وقاضياً وفقهياً ، ولكن مملكة الشعر لملكها احمد بن الحسين المتنبئ لمجموع محاسنه، وكلية إبداعه، وقد يفوقه في قصيدة أو بيت واحد غيره من الشعراء، لكن مجموع شعره لا يفوقه فيه شاعر ولهذا يقول:
أنا السابق الهادي إلي ما أقوله إذا القول قبل القائلين مقول
وهذا الشاعر انصهر مع الكلمة، وذاق البيان، وأشرب في قلبه الفصاحة فذابت حشاياه، وغلت مراجل فكره بجواهر من القول فاقت الوصف، والذي يعجبك في المتنبئ هذا الاحتراف والإشراق، فهو محترف بهمومه وهمته وطموحاته، مشرق بعبقرية وإبداعه ونبوغه، وهو كما قال في ممدوحه:
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
ولك أن تقف أمام هذا البيت الذي يغنيك عن إسهاب من القول، وحواش من الحديث ، فهو كما يقول لممدوحه: إنك وإن تفوقت علي أقرانك ، وتفردت بصفاتك عن بني جنسك، وتميزت هذا التميز المنقطع النظير ، فلا غرابة في ذلك ، فإن المسك علي ندرته وشرفه وطيب رائحته وارتفاع ثمنه؛ من جنس دم الغزال.
البطاقة الشخصية:
أنا الذي نظر الأعمى إلي أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
هذه ترجمة موجزة للمتنبئ ، فليس يهمنا معرفة اصله وفصله ونسبه وحسبه، بل نريد إبداعه ولموعه كما قال الشاعر:
أنا لست مهتماً بأصل قبيلتي ورائي قريش أم ورائي تغلب
فليست بلادي ببرقاً أو خريطة ولكن بلادي حيث اسطيع أكتب
فهو يقدم لنا نفسه بهذا البيت علي أنه موهوب ، فرض نفسه علي الناس بشعره وأدبه حتى إن الأعمى الذي لا يبصر شيئاً نظر إلي أدبه، لقوة تأثيره، وسطوع تعبيره، وبلاغة تصويره، والأصم الذي لا يسمع شيئاً أنصت لكلماته النافذة الأسرة الباهرة.
أما شعره ، فيكفيه أن الدهر أحد رواة شعره، والأيام والليالي أصبحت تردد هذا الإبداع وتغني هذا السحر الحلال:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعراً اصبح الدهر منشداً
فسار به من لا يسير مشمــراً وغني به من لا يغني مفـــرداً